عندما حشد العدو وحداته عند حدود مناطق غلاف غزة الشمالية والشرقية بأربع فرق مدرعات ومشاة، اضافة إلى أكثر من عدة ألوية من الوحدات الخاصة مع أفواج من سلاحي المدفعية والهندسة، بهدف تنفيذ توغل بري واسع في غزّة، تدخل الأميركيون من باب الحرص على وديعتهم في المنطقة، ناصحين عمليات جيش الكيان بتنفيذ مناورات برية متفرقة، عوضًا عن هجوم بري واسع وواضح، مستندين في ذلك الى تجارب حية وخبرات قتالية اكتسبوها في احتلالهم للعراق بعد غزوه عام 2003، ومقارنين بين عمليتي احتلال الفلوجة او الموصل. وفيما نجح الأميركيون في احتلال الموصل حينها بأقل قدر ممكن من الخسائر، اقنعوا الاسرائيليين بالابتعاد عن نموذج القتال في عملية احتلال الفلوجة.
مع بدء الوحدات العسكرية الاسرائيلية هجومها على غزة عبر مناورات برية متفرقة، اختارت الدخول في مناطق رخوة ومفتوحة ومكشوفة بعيدة عن المناطق السكنية المكتظة، وتواجدت في بعض المساحات في محيط بيت حانون شمال شرق القطاع وفي محيط بيت لاهيا شمال غرب القطاع، وفي رأس جسر في محور جحر الديك وسط شرق القطاع باتجاه مفرق صلاح الدين. وعندما حاولت تثبيت نقاط ارتكاز في تلك المناطق، أطلقت وحدات القسام في حركة “حماس” عملية الدفاع والمواجهة المعقدة والمحضرة، وبدأت دبابات العدو الأكثر تدريعًا وتحصينًا “الميركافا” تُدَمّر وتحترق في مواقع تمركزها بقذائف الياسين 105 الترادفية المعدلة، وبالعبوات الناسفة المحضرة محليًا باسم عبوة العمل الفدائي، وبدأ يرتفع عدد القتلى والمصابين بين جنود العدو. العدو الذي اختار مناورات برية متفرقة مبتعدًا عن التوغل البري الواسع لحماية جنوده ودباباته، وجد نفسه يغرق في مستنقع الموت الذي استدرجته اليه وحدات القسام.
بعد مرور ما يقارب الشهر على “طوفان الاقصى”، وحوالي 23 يومًا على بدء “المناورات البرية”، تتكدس مدرعات وآليات العدو في تلك المواقع المحدودة في شمال شرق وشمال غرب القطاع، وفي محور جحر الديك – صلاح الدين. من جهة هي عاجزة عن التقدم بسبب العقد القتالية التي فرضتها القسام وحتمية سقوط اصابات ضخمة في صفوفها، وفي الوقت نفسه عاجزة عن التراجع بسبب محاذير الخطوة على كافة الصعد المعنوية والعسكرية والاستراتيجية. وفيما يجهل طاقم كل دبابة أو آلية للعدو اللحظة التي سيصاب فيها بقذيفة مضادة من مسافة عشرة أمتار أو بعبوة ناسفة تلصق على جسم آليته، تعيش قيادة عمليات العدو هاجس الاستهداف المباشر والقاتل لكل مجموعة انتشرت في مناطق دخولها المحدودة في القطاع.
أولا: الجبهة الشمالية مع لبنان، حيث تشكل اليوم هذه الجبهة التحدي الأخطر والأكثر تأثيرًا، ميدانيًا وعسكريًا على قيادات العدو العسكرية. فهي جبهة مفتوجة على مصراعيها بكافة أنواع الأسلحة النوعية، والتي اختار حزب الله أن يُدخِلها في المواجهة بشكل تصاعدي ضمن مناورة مدروسة، تجمع الحسم والفعالية والقدرة والتركيز. وفي الوقت الذي يحتاج العدو لتركيز قدراته وجهوده وعملياته لضبط توازنه الذي ينهار في غزة، جاء ضغط الجبهة الشمالية عليه ليشتت سيطرته محتارًا بين متابعة تركيزه في جبهة غزة، والتي تعتبر جبهة خاسرة له بكل مقومات القتال، وبين العمل بقدرات ضخمة لمواجهة الخطر الأكيد الآتي من الشمال، والذي يعلم العدو جيدًا جديته ومستوى تأثيره الميداني والعسكري والداخلي عليه، مع ما يمكن أن يفرضه على كامل كيانه من تداعيات ضخمة لا يمكن التعامل معها ومواجهتها.
ثانيًا: لا شك أن العدو لن يستطيع الافلات من جرائمه باستهداف المدنيين والمراكز الطبية والانسانية والمدارس، مع تجاوزه كل قيود القوانين الدولية وقوانين الحرب. ومع كل ما حصل من دعم أميركي وقح وخبيث لتغطية جرائمه هذه، يبدو أن كرة السخط الدولي شعبيًا عليه بدأت تتدحرج بشكل لافت، والمسار التصاعدي للمظاهرات والاعتصامات المنددة بجرائمه غير المسبوقة تاريخيًا، يسير بشكل ثابت نحو فرض رأي عام دولي ضخم، لن يستطيع تجاوزه، لا هو ولا واشنطن كراعية حقيقية لهذه الجرائم، وتأثيرات هذا التنديد والرفض الواسع لجرائمه أصبحت تشكل عنصرًا رئيسًا من عناصر الضغط على العدو الاسرائيلي نحو انكفائه خطوات إلى الوراء في عمليته الفاشلة عسكريًا على غزة، والتي لم ينجح فيها إلا بتدمير مروحة واسعة من الأحياء والشوارع والمنازل والمؤسسات المدنية والطبية، وباستهداف واسقاط أكبر عدد ممكن من الشهداء المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ الآمنين المظلومين.
انطلاقًا من هذا الفشل الواضح ميدانيًا وعسكريًا، ومن تصاعد الخطر الأكبر من الجبهة الشمالية مع اقتراب تطوير حزب الله معركته نحو عمق الكيان، مع ما يحمله الأمر من تداعيات مؤلمة على كافة الصعد، وذلك فيما لو تابع الاحتلال معركته على غزة ولأهدافه المعلنة بتدمير بنية “حماس” العسكرية والشعبية، وانطلاقًا من تدحرج الرفض الدولي والسخط العالمي الذي لم يعد قادرًا على تمرير وتبرير جرائم الصهاينة في غزة، ارتفعت امكانية اقتناع العدو بفشل معركته وعدوانه، وبعجزه عن تحقيق ولو نسبة جزئية من أهدافه المعلنة من العملية، وبات لزامًا عليه وقف هذا العدوان والاقتناع بمسار “التسوية” التي تبدأ بتبادل كامل للأسرى بينه وبين الجانب الفلسطيني.