على الرغم من أنّ لبنان لا يزال نسبيًا بمنأى عن الحرب الهمجيّة الدائرة في قطاع غزة، ولو أنّ “حربًا مصغّرة” لا تقلّ خطورة تدور على حدوده الجنوبية، من دون أن تتّسع رقعتها لغاية تاريخه، فإنّ مؤشّرات بالجملة دفعت كثيرين إلى “الهلع” خلال الأيام القليلة الماضية، أو بالحدّ الأدنى إلى “قرع” طبول الحرب، توازيًا مع التصاعد اللافت في وتيرة العمليات التي ينفذها “حزب الله”، والتي يردّ عليها الإسرائيليون بالقصف “العشوائي”، إن جاز التعبير.
فمع أنّ العمليات التي ينفّذها “حزب الله” لا تزال “مضبوطة” بشكل أو بآخر، وتندرج بمعظمها ضمن خانة “ردّ الفعل” لا “الهجوم”، انطلاقًا من حقّ اللبنانيين المشروع في الدفاع عن النفس في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، والتي أودت بحياة صحافيّين ومدنيّين خلال الأسبوعين الأخيرين، ثمّة من يربطها بحرب غزة بشكل مباشر، ويضعها في سياق الرغبة بـ”إلهاء” الإسرائيلي بالجبهة اللبنانية، منعًا للاستفراد بالقطاع المُحاصَر.
ولعلّ “صمت” الحزب الذي لم يخرج أمينه العام السيد حسن نصر الله بإطلالة واحدة منذ بدء الحرب، يزيد من التعقيدات المحيطة بـ”سيناريوهات” الحرب، فاتحًا الباب أمام تكهّنات بالجملة حول ما يُحضَّر، ولو أنّ المحسوبين على الحزب والمقرّبين منه يضعون هذا الصمت في سياق “الحرب النفسية” مع الجانب الإسرائيلي، الذي لا يخفي “تعطّشه” لمعرفة مخطّطات الحزب، مع اعترافه بأنّ فتح الجبهة ليس في مصلحته في الوقت الراهن.
بيد أنّ ما يرفع من مستوى “القلق” يتمثّل في التعاطي الدولي مع “الجبهة اللبنانية”، وكأنّها “اشتعلت”، أو بالحدّ الأدنى، كأنّ “اشتعالها” أضحى تحصيلاً حاصلاً، أو ربما “مسألة وقت” لا أكثر، وهو ما يفسّر في مكان ما كمية التحذيرات المتتالية التي تصدرها السفارات العربية والأجنبية من السفر إلى لبنان، ودعوة الرعايا إلى مغادرته فورًا، وطالما أنّ الرحلات التجارية لا تزال مُتاحة، فهل من داعٍ للهلع؟ وهل اقترب الحرب فعلاً؟!.
في المبدأ، قد لا يكون السؤال عمّا إذا كانت الحرب بين لبنان من خلال “حزب الله” وإسرائيل قد اقتربت عمليًا، في مكانه بالنسبة إلى كثيرين، ممّن يعتقدون أنّ الحرب قد بدأت فعلاً، إلا إذا لم تكن الحدود الجنوبية التي لا يمرّ يوم من دون “سخونة” على خطّها، جزءًا “سياديًا” من البلد، وإذا كان الصحافيون والمدنيّون، فضلاً عن عناصر “حزب الله”، حرفًا ناقصًا، يجوز قتلهم ببساطة، في ظروفٍ عاديّة، كما يحاول البعض الإيحاء.
لعلّ السؤال المشروع انطلاقًا من ذلك، لا ينبغي أن يركّز على احتماليّة وقوع الحرب، بقدر اتساع رقعتها، وخروجها من دائرة المناطق الحدودية، التي لا تزال كلّ العمليات محصورة في نطاقها حتى الآن، لتشمل سائر المناطق اللبنانية، كما حصل في حرب تموز 2006، حين امتدّ القصف الإسرائيلي إلى كل المحافظات الجنوبية، بل وصل إلى قلب ضاحية بيروت الجنوبية، وهو سؤال لا يبدو أنّ أحدًا يمتلك الإجابة “اليقينية” عليه بعد.
ومع أنّ العارفين يعتقدون أنّ هذا الاحتمال يبقى “مُستبعَدًا” حتى الآن، وفقًا لكلّ المعطيات الموضوعية المتوافرة، باعتبار أنّ توسيع أفق الحرب ليس مصلحة لإسرائيل، تمامًا كما أنه ليس مصلحة للبنان أيضًا، ولـ”حزب الله” ضمنًا، فإنّهم يشيرون إلى أنّ كل السيناريوهات تبقى واردة، ويفترض التحضّر لها جيّدًا، وهو ما يفسّر خطط “الطوارئ” الغربية، التي شملت تعليق الرحلات إلى بيروت، ودعوة الرعايا إلى مغادرتها على وجه السرعة.
لكن، خلافًا للأجواء “السلبية” الثقيلة التي أرختها تحذيرات السفر، يضعها العارفون في سياق “الخطط الاستباقية” ليس إلا، حيث يعتقدون أنّها تأتي من باب “التحسّب” ليس إلا، علمًا أنّ بعض هذه التحذيرات لم تصدر إلا بعد الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة بيروت في الأيام الماضية، على وقع المجازر الإسرائيلية الرهيبة على قطاع غزة، والتي يُخشى أن تتصاعد هي الأخرى مع توسّع العدوان، ما قد يترك تداعيات في المنطقة بأسرها.
ثمّة من يردّ هذه الأجواء “الضبابيّة” أيضًا إلى موقف “حزب الله”، الذي يلتزم “الصمت” منذ عملية “طوفان الأقصى”، حيث يغيب أمينه العام السيد حسن نصر الله عن الإطلالات كما لم يفعل في أيّ استحقاق سابق، فيما تكتفي قيادته ببيانات مقتضبة، تتبنّى فيها العمليات التي ينفذها الحزب بجملة أو اثنتين، وتنعى المقاتلين الذين يسقطون في خضمّ المعارك، ما يطرح السؤال عمّا يخطّط له الحزب، وما إذا كان بوارد “كسر” هذا الصمت عمّا قريب.
يقول العارفون إنّ هذا الصمت هو “تكتيك” اختاره الحزب، وأثبت جدواه، بغضّ النظر عن بعض الأصوات المشكّكة، ولو صدرت من الداخل، إذ كان بإمكان السيد حسن نصر الله أن يطلّ منذ اليوم الأول للمعارك، ليطلق المواقف المعروفة والثابتة، من وجوب مساندة أهل غزة في معركتهم المفصليّة، ومن تأكيد وقوف المقاومة إلى جانبهم بكلّ الوسائل المتاحة، لكنّه اختار عدم “إشباع فضول العدو”، للكثير من الأسباب والاعتبارات.
صحيح أنّ هناك من يعتقد أنّ الحزب بإحجامه عن مثل هذه الإطلالة التي ينتظرها العدو قبل الصديق، أراد عدم “إقفال الباب” أمام سيناريوهات قد تفرضها المعركة، خصوصًا في ظلّ ما يُحكى عن عملية برية يرتبك الإسرائيلي إزاءها ويؤجّلها بصورة مستمرّة، لكنّ الثابت أنّ غياب السيد نصر الله عن الواجهة قد يكون من العوامل التي أجّجت هذا الارتباك، وهو ما يتجلّى في المواقف التي يعلنها القادة الإسرائيليون في الأيام الأخيرة.
وإذا كان المحسوبين على الحزب يرفضون “حسم” احتمال كسر الحزب لهذا الصمت في الأيام المقبلة، بعد ضرب الكثير من المواعيد لإطلالة مفترضة للسيد نصر الله “خاب” متوقّعوها، وكان آخرها بعد مجزرة مستشفى المعمداني الرهيبة، وتوازيًا مع “يوم الغضب” الذي دعا إليه الحزب، فإنّهم يجزمون أن أيّ إطلالة، إن حصلت، لا بدّ أن تقترن بحدث أساسيّ، إما يشكّل “نقلة نوعية” في مسار الحرب، أو ربما يعلن “الانتصار” في مكانٍ ما.
في النتيجة، يقول العارفون إنّ المعطيات الحالية، على حساسيّتها ودقّتها، لا يفترض أن تدعو للهلع، فاتساع رقعة الحرب من الحدود الجنوبية، لا يزال سيناريو مُستبعَدًا إلى حدّ بعيد، لأسباب بعضها مرتبط بقضية غزة نفسها، وبعضها الآخر مرتبط بالواقع الداخلي. لكنّهم يشدّدون على أنّ “النوم على حرير” ليس مطلوبًا أيضًا، فكلّ شيء يمكن أن يتغيّر في لحظة واحدة، وسط “جنون” إسرائيلي يتعاظم منذ “طوفان الأقصى”!.