Responsive Image
اخبار لبنانمنوعات

باصُ النبطية.. 30 عامًا بين الجريمتين والعدوّ واحد

 ليلى عماشا/العهد

المكان: النبطية، والزمان حرب.. الفاعل عدوّ يمعن في الهمجية كلّما تألّم في هزيمته الميدانية أكثر، والمشهد، باص مدرسيّ وطلاب.. ودم!

في آذار/مارس من العام ١٩٩٤، وتحديدًا في يوم عيد الأم، قصفت مدفعية العدوّ باص مدرسة في النبطية: باص صغير، وطلاب خرجوا من بيوتهم باكرًا قاصدين صفوفهم، وما وصلوا: منهم من استشهد مظلومًا مضرّجًا بدمه والشظايا، ومنهم من جُرح وحمل ذاكرة المجزرة إلى اليوم في ملامحه، كما حمل مثيلاتها الجيل الذي سبقه، والجيل الذي تلاه.

وبعد 30 عامًا، في صباح الثالث والعشرين من أيار/مايو 2014، وتحديدًا على طريق النبطية – كفر دجّال، أغار طيران العدوّ بالقرب من باص مدرسة: باص صغير، وطلاب خرجوا ينهون عامهم الدراسي الذي أمضوه على وقع أصوات الغارات والقذائف، وما وصلوا: منهم من جُرح وجميعهم تلقّوا الصدمة ودم الجرحى النازفين فوق قمصانهم المدرسية.. وحملوا، مع كتاب التاريخ في يد أحدهم، حكاية تاريخ الجنوب منذ أن وجدت “إسرائيل”، حكاية المجزرة التي لا يردّ عنهم همجية مرتكبها بحق جيلهم وكلّ جيل سبق سوى المقاومة.

باصُ النبطية.. 30 عامًا بين الجريمتين والعدوّ واحد

انتشرت صور الاستهداف الصباحي منذ أولى لحظاته، وحلّت ثقيلة على القلوب ولا سيّما على تلك التي قبلها بقليل أودعت فلذاتها في باصات المدارس. في الحرب، يحدث أن يصبح كلّ طفل خائف “ابنك”، ويحدث أن ترى ابنتك في عين كلّ طفلة مرّت بمحاذاة نيران العدو. ترتجف أمام صورة تنقل لك ما حدث في صباحهم، ويتمزّق صوتك في غصّة حارقة بفعل القلق الذي ندري أنّهم صغارًا خبروه ولو للحظة واحدة.. تستحضر ذاكرتك سيل المشاهد المشابهة التي تحملها، تتقاطع في ذهنك الصور، يشتدّ غضبك ومعه يزداد يقينك ألّا إمكانية أن تنتهي هذه الهمجية إلّا بزوال فاعلها، وأنه لن يكون لدينا جيل تخلو طيات عمره الطريّ من ذاكرة مجزرة سوى بعد أن يزول هذا الكيان القاتل.. يسطع في عينيك انعكاس راية المقاومة، وبسمات الشهداء، فتطمئن.. تعتصر جمر التألّم مدركًا أنّ هذا الكثير من الوجع لا يعادل قطرة في بحر الدم المبذول صونًا للأرض وللأجيال.

هنا الجنوب.. هنا النبطية.. هنا أرض تعرف عدوّها وخبرت المجازر ألف مرّة وما انكسرت.. هنا تراب يحنّ على دم الأطفال، يسكّن روعهم بلمسات تعمّق انتمائهم إلى جغرافيا القتال، وتاريخ المقاومة، ومفاهيم الثورة، ومعنى الحرية..

هنا الجنوب.. هنا القلوب الصبية والجراح الطريّة التي وإن أفزعها القصف المعادي، تستقبل الإعلام بصوت طفوليّ يحمل كلّ سمات الفطرة النقية: جريح صبيّ، وجهه يشبه حقلًا من حبق، يفوح بالطهر وينطق حُبًا يتعالى فوق النزف وفوق الجرح الغائر: “رح ارجع روح عالمدرسة! شو بخاف من إسرائيل؟!”.

هنا الجنوب، هنا طهر يقول للعالم، بالدم، بالقلوب، بالدمع، بالبذل العظيم: لا نخاف.. يقيننا يردّ مفاعيل ألف غارة! عيننا تكسر ألف مخرز!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى